البشير والمحكمة الجنائية الدولية
حينما مرض أبو العلاء المعري، وكان نباتيا، أحضروا له ديكا ليأكله، ويشرب مرقه، فتأمل أبو العلاء الديك المطبوخ طويلا قبل أن يقول عبارته الشهيرة: «استضعفوك فأكلوك فلماذا لم يأكلوا شبل الأسد؟!»، والمحكمة الدولية تتعامل اليوم في قضية طلب إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة وفق مبدأ الاستضعاف، وإلا فلماذا لم يوجهوا مثل هذا الاتهام لزعماء إسرائيل رغم كل الجرائم التي ارتكبوها في حق الفلسطينيين؟! ولماذا لم يوجهوا مثل تلك الاتهامات أيضا لمسؤولين في دول كبرى ارتكبوا في حروبهم مع الغير ما يمكن أن يندرج ضمن جرائم الحرب، أو الجرائم التي تصنف ضد الإنسانية؟!
لو أن المحكمة الجنائية الدولية قادرة على تطبيق المعايير على الجميع لاصطف كل عقلاء العالم خلف المحكمة الدولية، ورفعوها شعارا في وجوه كل الظالمين، وجعلوا منها (الفزاعة) التي يخيفون بها السفاحين وسفاكي الدماء، لكنها ـ أي المحكمة الجنائية الدولية ـ في غمرة الانغماس الاختياري أو الاضطراري في لعبة «الخيار والفقوس» لا أعتقد أن الكثيرين يتعاطفون معها في قضية توقيف الرئيس عمر البشير، وهو أول رئيس دولة يمكن أن يواجه بمثل هذه المذكرة أثناء ممارسة منصبه، وقد لا يتفق الكثيرون معها حول موضوعية التهم الموجهة إليه بأنه استهدف بطريقة محددة ومخطط لها مدنيين ليسوا طرفا في أي نزاع بنية القضاء عليهم كمجموعة، فلا أعتقد أن البشير «نيرون»، ولا سيكولوجية الإنسان السوداني يمكن أن تصنع منه دمويا على النحو الذي يصوره الاتهام، فتعقيدات دارفور، بل تعقيدات الوضع السوداني ـ في نظر الكثير من المتابعين ـ أكبر من أن تختزل في حيثيات ذلك الاتهام، فنحن أمام رئيس وجد نفسه في مواجهة وطن يوشك أن يتمزق إلى أشلاء، وفي مواجهة حركات تمرد برؤوس متعددة يصعب التعامل مع كل واحدة منها على حدة.
أنا هنا لا أدافع عن الرئيس البشير، فلقد ظللت طويلا ولم أزل أنظر إليه بأنه أكثر الرؤساء تورطا في الصناعة المجانية للأعداء، ومن أكثرهم إخفاقا في اختيار المواقف المناسبة، فضلا عما يتسم به من حدة وغضب وانفعال لا تتفق مع لعبة السياسة، وحاجتها إلى المرونة والتكيف والدهاء، لكنني لا أرى في استهدافه كأول رئيس يمكن أن توجه إليه مذكرة توقيف إلا استضعافا للسودان، وللعرب، وللأفارقة بشكل عام، وإلا، ألا يوجد من يستحق التوقيف في كل هذا الكون غير «عون»؟!